فصل: تفسير الآيات رقم (1- 2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


سورة التوبة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏1‏)‏ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏بَرَاءةٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ‏}‏ أي هذه براءة، ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف تقديره وأصله ‏{‏مّنَ الله وَرَسُولِهِ‏}‏، ويجوز أن تكون ‏{‏بَرَاءةٌ‏}‏ مبتدأ لتخصصها بصفتها والخبر ‏{‏إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مّنَ المشركين‏}‏ وقرئ بنصبها على اسمعوا براءة، والمعنى‏:‏ أن الله ورسوله برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وإنما علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم وإن كانت صادرة بإذن الله تعالى واتفاق الرسول فإنهما برئا منها، وذلك أنهم عاهدوا مشركي العرب فنكثوا إلا أناساً منهم بنو ضمرة وبنو كنانة فأمرهم بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهل المشركين أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا فقال‏:‏ ‏{‏فَسِيحُواْ فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏ شوال وذي القعدة وذي الحجة والمحرم لأنها نزلت في شوال‏.‏ وقيل هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر لأن التبليغ كان يوم النحر لما روي ‏(‏أنها لما نزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم، وكان قد بعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه أميراً على الموسم فقيل له‏:‏ لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال‏:‏ لا يؤدي عني إلا رجل مني، فلما دنا علي رضي الله تعالى عنه سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال‏:‏ هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لحقه قال‏:‏ أمير أو مأمور قال مأمور، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحدثهم عن مناسكهم وقام علي رضي الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال‏:‏ أيها الناس إني رسول الله إليكم، فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال‏:‏ أمرت بأربع‏:‏ أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده‏)‏‏.‏ ولعل قوله صلى الله عليه وسلم «لا يؤدي عني إلا رجل مني» ليس على العموم، فإنه صلى الله عليه وسلم بعث لأن يؤدي عنه كثير لم يكونوا من عترته، بل هو مخصوص بالعهود فإن عادة العرب أن لا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها، ويدل عليه أنه في بعض الروايات «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي» ‏{‏واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله‏}‏ لا تفوتونه وإن أمهلكم‏.‏ ‏{‏الله مُخْزِى الكافرين‏}‏ بالقتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس‏}‏ أي إعلام فعال بمعنى الإِفعال كالأمان والعطاء، ورفعه كرفع ‏{‏بَرَاءةٌ‏}‏ على الوجهين‏.‏ ‏{‏يَوْمَ الحج الأكبر‏}‏ يوم العيد لأن فيه تمام الحج معظم أفعاله، ولأن الإِعلام كان فيه ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال «هذا يوم الحج الأكبر» وقيل يوم عرفة لقوله صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة» ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر، أو لأن المراد بالحج ما يقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال، أو لأن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون ووافق عيده أعياد أهل الكتاب، أو لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله‏}‏ أي بأن الله‏.‏ ‏{‏بَرِئ مّنَ المشركين‏}‏ أي من عهودهم‏.‏ ‏{‏وَرَسُولُهُ‏}‏ عطف على المستكن في ‏{‏بَرِئ‏}‏، أو على محل ‏{‏إِن‏}‏ واسمها في قراءة من كسرها إجراء للأذان مجرى القول، وقرئ بالنصب عطفاً على اسم إن أو لأن الواو بمعنى مع ولا تكرير فيه، فإن قوله ‏{‏بَرَاءةٌ مّنَ الله‏}‏ إخبار بثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الإِعلام بذلك ولذلك علقه بالناس ولم يخصه بالمعاهدين‏.‏ ‏{‏فَإِن تُبْتُمْ‏}‏ من الكفر والغدر‏.‏ ‏{‏فَهُوَ‏}‏ فالتوب ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ عن التوبة أو تبتم على التولي عن الإسلام والوفاء‏.‏ ‏{‏فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله‏}‏ لا تفوتونه طلباً ولا تعجزونه هرباً في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَبَشّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين‏}‏ استثناء من المشركين، أو استدراك فكأنه قيل لهم بعد أن أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين ولكن الذين عاهدوا منهم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً‏}‏ من شروط العهد ولم ينكثوه أو لم يقتلوا منكم ولم يضروكم قط‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً‏}‏ من أعدائكم ‏{‏فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ‏}‏ إلى تمام مدتهم ولا تجروهم مجرى الناكثين‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين‏}‏ تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا انسلخ‏}‏ انقضى، وأصل الانسلاخ خروج الشيء مما لابسه من سلخ الشاة‏.‏ ‏{‏الأشهر الحرم‏}‏ التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها‏.‏ وقيل هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهذا مخل بالنظم مخالف للإِجماع فإنه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم إذ ليس فيما نزل بعد ما ينسخها‏.‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ الناكثين‏.‏ ‏{‏حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ من حل أو حرم‏.‏ ‏{‏وَخُذُوهُمْ‏}‏ وأسروهم، والأخيذ الأسير‏.‏ ‏{‏واحصروهم‏}‏ واحبسوهم أو حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام‏.‏ ‏{‏واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ‏}‏ كل ممر لئلا يتبسطوا في البلاد، وانتصابه على الظرف‏.‏ ‏{‏فَإِن تَابُواْ‏}‏ عن الشرك بالإِيمان‏.‏ ‏{‏وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة‏}‏ تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم‏.‏ ‏{‏فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ‏}‏ فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك، وفيه دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ تعليل للأمر أي فخلوهم لأن الله غفور رحيم غفر لهم ما قد سلف وعدلهم الثواب بالتوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين‏}‏ المأمور بالتعرض لهم‏.‏ ‏{‏استجارك‏}‏ استأمنك وطلب منك جوارك‏.‏ ‏{‏فَأَجِرْهُ‏}‏ فأمنه‏.‏ ‏{‏حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله‏}‏ ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ‏}‏ موضع أمنه إن لم يسلم، وأحدٌ رفع بفعل يفسره ما بعده لا بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ الأمن أو الأمر‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه فلا بد من أمانهم ريثما يسمعون ويتدبرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ‏}‏ استفهام بمعنى الإِنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد ولا ينكثوه مع وغرة صدورهم، أو لأن يفي الله ورسوله بالعهد وهم نكثوه، وخبر يكون كيف وقدم للاستفهام أو للمشركين أو عند الله وهو على الأولين صفة لل ‏{‏عهد‏}‏ أو ظرف له أو ل ‏{‏يَكُونَ‏}‏، و‏{‏كَيْفَ‏}‏ على الأخيرين حال من ال ‏{‏عهد‏}‏ و‏{‏لّلْمُشْرِكِينَ‏}‏ إن لم يكن خبراً فتبيين‏.‏ ‏{‏إِلاَّ الذين عاهدتم عِندَ المسجد الحرام‏}‏ هم المستثنون قبل ومحله النصب على الاستثناء أو الجر على البدل أو الرفع على أن الاستثناء منقطع أي‏:‏ ولكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام‏.‏ ‏{‏فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ‏}‏ أي فتربصوا أمرهم فإن استقاموا على العهد فاستقيموا على الوفاء وهو كقوله ‏{‏فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ‏}‏ غير أنه مطلق وهذا مقيد وما تحتمل الشرطية والمصدرية ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين‏}‏ سبق بيانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏كَيْفَ‏}‏ تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أو بقاء حكمه مع التنبيه على العلة وحذف الفعل للعلم به كما في قوله‏:‏

وَخَبَّرتماني أَنَّما الموْتُ بِالقُرَى *** فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَةٌ وَقَلِيبُ

أي فكيف مات‏.‏ ‏{‏وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ‏}‏ أي وحالهم أنهم إن يظفروا بكم‏.‏ ‏{‏لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ‏}‏ لا يراعوا فيكم‏.‏ ‏{‏إِلا‏}‏ حلفاً وقيل قرابة قال حسان‏:‏

لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْش *** كَإِلَّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ

وقيل ربوبية ولعله اشتق للحلف من الإِل وهو الجؤار لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه، ثم استعير للقرابة لأنها تعقد بين الأقارب ما لا يعقده الحلف، ثم للربوبية والتربية‏.‏ وقيل اشتقاقه من ألل الشيء إذا حدده أو من آل البرق إذا لمع‏.‏ وقيل إنه عبري بمعنى الإِله لأنه قرئ إيلا كجبرئل وجبرئيل‏.‏ ‏{‏وَلاَ ذِمَّةً‏}‏ عهداً أو حقاً يعاب على إغفاله‏.‏ ‏{‏يُرْضُونَكُم بأفواههم‏}‏ استئناف لبيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد المؤدية إلى عدم مراقبتهم عند الظفر، ولا يجوز جعله حالاً من فاعل لا يرقبوا فإنهم بعد ظهورهم لا يرضون ولأن المراد إثبات إرضائهم المؤمنين بوعد الإِيمان والطاعة والوفاء بالعهد في الحال، واستبطان الكفر والمعاداة بحيث إن ظفروا لم يبقوا عليهم والحالية تنافيه ‏{‏وتأبى قُلُوبُهُمْ‏}‏ ما تتفوه به أفواههم‏.‏ ‏{‏وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون‏}‏ متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردعهم، وتخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التفادي عن الغدر والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 15‏]‏

‏{‏اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏9‏)‏ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ‏(‏12‏)‏ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ‏(‏14‏)‏ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏اشتروا بئايات الله‏}‏ استبدلوا بالقرآن‏.‏ ‏{‏ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ عرضاً يسيراً وهو اتباع الأهواء والشهوات‏.‏ ‏{‏فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ دينه الموصل إليه، أو سبيل بيته بحصر الحجاج والعمار، والفاء للدلالة على أن اشتراءهم أداهم إلى الصد‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ عملهم هذا أو ما دل عليه قوله‏.‏

‏{‏لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً‏}‏ فهو تفسير لا تكرير‏.‏ وقيل الأول عام في الناقضين وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود، أو الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم‏.‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمُ المعتدون‏}‏ في الشرارة‏.‏

‏{‏فَإِن تَابُواْ‏}‏ عن الكفر‏.‏ ‏{‏وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة فَإِخوَانُكُمْ فِى الدين‏}‏ فهم إخوانكم في الدين لهم ما لكم وعليهم ما عليكم‏.‏ ‏{‏وَنُفَصّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ اعتراض للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين أو خصال التائبين‏.‏

‏{‏وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ‏}‏ وإن نكثوا ما بايعوا عليه من الإِيمان أو الوفاء بالعهود‏.‏ ‏{‏وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ‏}‏ بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام‏.‏ ‏{‏فقَاتَلُواْ أَئِمَّةَ الكفر‏}‏ أي فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر أحقاء بالقتل‏.‏ وقيل المراد بالأئمة رؤساء المشركين فالتخصيص إما لأن قتلهم أهم وهم أحق به أو للمنع من مراقبتهم‏.‏ وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي و«رُوحُ» عن يعقوب أئمة بتحقيق الهمزتين على الأصل والتصريح بالياء لحن‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ‏}‏ أي لا أيمان لهم على الحقيقة وإلا لما طعنوا ولم ينكثوا، وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإِسلام فقد نكث عهده، واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر ليست يميناً وهو ضعيف لأن المراد نفي الوثوق عليها لا أنها ليست بأيمان لقوله تعالى؛ ‏{‏وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم‏}‏ وقرأ ابن عامر لا أيمان لهم بمعنى لا أمان أو لا إسلام، وتشبث به من لم يقبل توبة المرتد وهو ضعيف لجواز أن يكون بمعنى لا يؤمنون على الإِخبار عن قوم معينين أو ليس لهم إيمان فيراقبوا لأجله‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ‏}‏ متعلق ب «فقاتلوا» أي ليكن غرضكم في المقاتلة أن ينتهوا عما هم عليه لا إيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين‏.‏

‏{‏أَلاَ تقاتلون قَوْماً‏}‏ تحريض على القتال لأن الهمزة دخلت على النفي للإنكار فأفادت المبالغة في الفعل‏.‏ ‏{‏نَّكَثُواْ أيمانهم‏}‏ التي حلفوها مع الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم فعاونوا بني بكر على خزاعة‏.‏ ‏{‏وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول‏}‏ حين تشاوروا في أمره بدار الندوة على ما مر ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ وقيل هم اليهود نكثوا عهد الرسول وهموا بإخراجه من المدينة‏.‏ ‏{‏وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ بالمعاداة والمقاتلة لأنه عليه الصلاة والسلام بدأهم بالدعوة وإلزام الحجة بالكتاب والتحدي به، فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة فما يمنعكم أن تعارضوهم وتصادموهم‏.‏

‏{‏أَتَخْشَوْنَهُمْ‏}‏ أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم‏.‏ ‏{‏فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ‏}‏ فقاتلوا أعداءكم ولا تتركوا أمره‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ فإن قضية الإِيمان أن لا يخشى إلا منه‏.‏

‏{‏قاتلوهم‏}‏ أمر بالقتال بعد بيان موجبه والتوبيخ على تركه والتوعيد عليه‏.‏ ‏{‏يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ‏}‏ وعد لهم إن قاتلوهم بالنصر عليهم والتمكن من قتلهم وإذلالهم‏.‏ ‏{‏وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ يعني بني خزاعة‏.‏ وقيل بطوناً من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديداً فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «أبشروا فإن الفرج قريب» ‏{‏وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ لما لقوا منهم وقد أوفى الله بما وعدهم والآية من المعجزات‏.‏ ‏{‏وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء‏}‏ ابتداء إخبار بأن بعضهم يتوب عن كفره وقد كان ذلك أيضاً، وقرئ ‏{‏وَيَتُوبَ‏}‏ بالنصب على إضمار أن على أنه من جملة ما أجيب به الأمر فإن القتال كما تسبب لتعذيب قوم تسبب لتوبة قوم آخرين‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بما كان وما سيكون‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق الحكمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ‏}‏ خطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال‏.‏ وقيل للمنافقين و‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على الحسبان‏.‏ ‏{‏أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ‏}‏ ولم يتبين الخلص منكم وهم الذين جاهدوا من غيرهم، نفى العلم وأراد نفي المعلوم للمبالغة فإنه كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يَتَّخِذُواْ‏}‏ عطف على ‏{‏جاهدوا‏}‏ داخل في الصلة‏.‏ ‏{‏مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً‏}‏ بطانة يوالونهم ويَفشون إليهم أسرارهم‏.‏ وما في ‏{‏لَّمّاً‏}‏ من معنى التوقع منبه على أن تبين ذلك متوقع‏.‏ ‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ يعلم غرضكم منه وهو كالمزيج لما يتوهم من ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ الله‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ ما صح لهم‏.‏ ‏{‏أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله‏}‏ شيئاً من المساجد فضلاً عن المسجد الحرام وقيل هو المراد وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر الجميع ويدل عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب بالتوحيد‏.‏ ‏{‏شَهِدِينَ على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ‏}‏ بإظهار الشرك وتكذيب الرسول، وهو حال من الواو والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافين عمارة بيت الله وعبادة غيره‏.‏ روي ‏(‏أنه لما أسر العباس عيره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحم وأغلظ له علي رضي الله تعالى عنه في القول فقال‏:‏ ما بالكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني‏)‏ فنزلت‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏ التي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك‏.‏ ‏{‏وَفِى النار هُمْ خالدون‏}‏ لأجله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وَءاتَى الزكواة‏}‏ أي إنما تستقيم عَمَارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية ومن عمارتها تزيينها بالفرش وتنويرها بالسرج وإدامة العبادة والذكر ودروس العلم فيها وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا، وعن النبي صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره» وإنما لم يذكر الإِيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم لما علم أن الإِيمان بالله قرينة وتمامه الإِيمان به ولدلالة قوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة عليه‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله‏}‏ أي في أبواب الدين فإن الخشية عن المحاذير جبلية لا يكاد العاقل يتمالك عنها‏.‏ ‏{‏فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين‏}‏ ذكره بصيغة التوقع قطعاً لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم وتوبيخاً لهم بالقطع بأنهم مهتدون، فإن هؤلاء مع كمالهم إذا كان اهتداؤهم دائراً بين عسى ولعل فما ظنك بأضدادهم، ومنعاً للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم ويتكلوا عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله واليوم الآخر وجاهد فِى سَبِيلِ الله‏}‏ السقاية والعمارة مصدر أسقى وعمر فلا يشبهان بالجثث بل لا بد من إضمار تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن، أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن‏.‏ ويؤيد الأول قراءة من قرأ «سقاة الحاج وعمرة المسجد» والمعنى إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة ثم قرر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله‏}‏ وبين عدم تساويهم بقوله‏:‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ أي الكفرة ظلمة بالشرك ومعاداة الرسول عليه الصلاة والسلام منهمكون في الضلالة فكيف يساوون الذين هداهم الله ووفقهم للحق والصواب، وقيل المراد بالظالمين الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله‏}‏ أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم تستجمع فيه هذه الصفات أو من أهل السقاية والعمارة عندكم‏.‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون‏}‏ بالثواب ونيل الحسنى عند الله دونكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ ورضوان وجنات لَّهُمْ فِيهَا‏}‏ في الجنات‏.‏ ‏{‏نَعِيمٌ مُّقِيمٌ‏}‏ دائم، وقرأ حمزة ‏{‏يُبَشّرُهُمْ‏}‏ بالتخفيف، وتنكير المبشر به إشعار بأنه وراء التعيين والتعريف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 30‏]‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏22‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏ قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏24‏)‏ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏27‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏28‏)‏ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏29‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏خالدين فِيهَا أَبَداً‏}‏ أكد الخلود بالتأبيد لأنه قد يستعمل للمكث الطويل‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ يستحقر دونه ما استوجبوه لأجله أو نعيم الدنيا‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وإخوانكم أَوْلِيَاء‏}‏ نزلت في المهاجرين فإنهم لما أمروا بالهجرة قالوا‏:‏ إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبنائنا وعشائرنا وذهبت تجاراتنا وبقينا ضائعين‏.‏ وقيل نزلت نهياً عن موالاة التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، والمعنى لا تتخذوهم أولياء يمنعونكم عن الإِيمان ويصدونكم عن الطاعة لقوله‏:‏ ‏{‏إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان‏}‏ إن اختاروه وحرصوا عليه‏.‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ بوضعهم الموالاة في غير موضعها‏.‏

‏{‏قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وإخوانكم وأزواجكم وَعَشِيرَتُكُمْ‏}‏ أقرباؤكم مأخوذ من العشرة‏.‏ وقيل من العشرة فإن العشيرة جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة‏.‏ وقرأ أبو بكر «وعشيراتكم» وقرئ «وعشائركم»‏.‏ ‏{‏وأموال اقترفتموها‏}‏ اكتسبتموها‏.‏ ‏{‏وتجارة تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا‏}‏ فوات وقت نفاقها‏.‏ ‏{‏ومساكن تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ‏}‏ الحب الاختياري دون الطبيعي فإنه لا يدخل تحت التكليف في التحفظ عنه‏.‏ ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ‏}‏ جواب ووعيد والأمر عقوبة عاجلة أو آجلة‏.‏ وقيل فتح مكة‏.‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين‏}‏ لا يرشدهم، وفي الآية تشديد عظيم وقل من يتخلص منه‏.‏

‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ‏}‏ يعني مواطن الحرب وهي مواقفها‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ‏}‏ وموطن يوم حنين ويجوز أن يقدر في أيام مواطن أو يفسر الموطن بالوقت كمقتل الحسين ولا يمنع إبدال قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ‏}‏ منه أن يعطف على موضع في ‏{‏مَوَاطِنَ‏}‏ فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي كثرتهم وإعجابها إياهم في جمع المواطن‏.‏ و‏{‏حُنَيْنٍ‏}‏ واد بين مكة والطائف حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وكانوا اثني عشر ألفاً، العشرة الذين حضروا فتح مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء هوازن وثقيفاً وكانوا أربعة آلاف فلما التقوا قال النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر رضي الله تعالى عنه أو غيره من المسلمين‏:‏ لن نغلب اليوم من قلة، إعجاباً بكثرتهم واقتتلوا قتالاً شديداً فأدرك المسلمين إعجابهم واعتمادهم على كثرتهم فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجامه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته فقال للعباس وكان صيتاً «صح بالناس»، فنادى‏:‏ يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقاً واحداً يقولون لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال صلى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم ثم قال‏:‏

«انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا‏.‏ ‏{‏فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ‏}‏ أي الكثرة‏.‏ ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من الإِغناء أو من أمر العدو‏.‏ ‏{‏وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ‏}‏ برحبها أي بسعتها لا تجدون فيها مفراً تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ وَلَّيْتُم‏}‏ الكفار ظهوركم‏.‏ ‏{‏مُّدْبِرِينَ‏}‏ منهزمين والإِدبار الذهاب إلى خلف خلاف الإِقبال‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ‏}‏ رحمته التي سكنوا بها وأمنوا‏.‏ ‏{‏على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين‏}‏ الذين انهزموا وإعادة الجار للتنبيه على اختلاف حاليهما‏.‏ وقيل هم الذين ثبتوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يفروا‏.‏ ‏{‏وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ بأعينكم أي الملائكة وكانوا خمسة آلاف أو ثمانية أو ستة عشر على اختلاف الأقوال‏.‏ ‏{‏وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بالقتل والأسر والسبي‏.‏ ‏{‏وذلك جَزَاء الكافرين‏}‏ أي ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا‏.‏

‏{‏ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاء‏}‏ منهم بالتوفيق للإسلام‏.‏ ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ يتجاوز عنهم ويتفضل عليهم‏.‏ روي ‏(‏أن ناساً جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا وقالوا‏:‏ يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا وقد سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الابل والغنم ما لا يحصى فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ اختاروا إما سباياكم وإما أموالكم‏؟‏ فقالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إن هؤلاء جاءوا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً فمن كان بيده سبي وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه فقالوا‏:‏ رضينا وسلمنا فقال؛ إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا إلينا فرفعوا أنهم قد رضوا‏)‏‏.‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ‏}‏ لخبث باطنهم أو لأنه يجب أن يجتنب عنهم كما يجتنب عن الأنجاس، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يتجنبون عن النجاسات فهم ملابسون لها غالباً‏.‏ وفيه دليل على أن ما الغالب نجاسته نجس‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب‏.‏ وقرئ ‏{‏نَجْسٌ‏}‏ بالسكون وكسر النون وهو ككبد في كبد وأكثر ما جاء تابعاً لرجس‏.‏ ‏{‏فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام‏}‏ لنجاستهم، وإنما نهى عن الاقتراب للمبالغة أو للمنع عن دخول الحرم‏.‏ وقيل المراد به النهي عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقاً وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع‏.‏ ‏{‏بَعْدَ عَامِهِمْ هذا‏}‏ يعني سنة «بَرَاءة» وهي التاسعة‏.‏ وقيل سنة حجة الوداع‏.‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً‏}‏ فقراً بسبب منعهم من الحرم وانقطاع ما كان لكم من قدومهم من المكاسب والأرفاق‏.‏

‏{‏فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ من عطائه أو تفضله بوجه آخر وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدراراً ووفق أهل تبالة وجرش فأسلموا وامتاروا لهم، ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من أقطار الأرض‏.‏ وقرئ «عائلة» على أنها مصدر كالعافية أو حال‏.‏ ‏{‏إِن شَاء‏}‏ قيده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى الله تعالى ولينبه على أنه تعالى متفضل في ذلك وأن الغني الموعود يكون لبعض دون بعض وفي عام دون عام‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ‏}‏ بأحوالكم‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ فيما يعطي ويمنع‏.‏

‏{‏قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الاخر‏}‏ أي لا يؤمنون بهما على ما ينبغي كما بيناه في «أول البقرة» فإن إيمانهم كلا إيمان‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ‏}‏ ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وقيل رسوله هو الذي يزعمون اتباعه والمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقاداً وعملاً‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق‏}‏ الثابت الذي هو ناسخ سائر الأديان ومبطلها‏.‏ ‏{‏مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ بيان للذين لا يؤمنون‏.‏ ‏{‏حتى يُعْطُواْ الجزية‏}‏ ما تقرر عليهم أن يعطوه مشتق من جزى دينه إذا قضاه‏.‏ ‏{‏عَن يَدٍ‏}‏ حال من الضمير أي عن يد مؤاتية بمعنى منقادين، أو عن يدهم بمعنى مسلمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه، أو عن غنى ولذلك قيل‏:‏ لا تؤخذ من الفقير، أو عن يد قاهرة عليهم بمعنى عاجزين أذلاء أو من الجزية بمعنى نقداً مسلمة عن يد إلى يد أو عن إنعام عليهم فإن إبقاءهم بالجزية نعمة عظيمة‏.‏ ‏{‏وَهُمْ صاغرون‏}‏ أذلاء وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ تؤخذ الجزية من الذمي وتوجأ عنقه‏.‏ ومفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ويؤيده أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، أنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر‏.‏ وأنه قال‏:‏ ‏"‏ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ‏"‏ وذلك لأنهم لهم شبهة كتاب فألحقوا بالكتابيين، وأما سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية عندنا، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تؤخذ منهم إلا مشركي العرب لما روى الزهري أنه صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من العرب، وعند مالك رحمه الله تعالى تؤخذ من كل كافر إلا المرتد، وأقلها في كل سنة دينار سواء فيه الغني والفقير، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى على الغني ثمانية وأربعون درهماً وعلى المتوسط نصفها وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على الفقير غير الكسوب‏.‏

‏{‏وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله‏}‏ إنما قاله بعضهم من متقدميهم أو ممن كانوا بالمدينة، وإنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة، وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظاً فتعجبوا من ذلك وقالوا‏:‏ ما هذا إلا أنه ابن الله‏.‏

والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب‏.‏ وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب ‏{‏عُزَيْرٌ‏}‏ بالتنوين على أنه عربي مخبر عنه بابن غير موصوف به وحذفه في القراءة الأخرى إما لمنع صرفه للعجمة والتعريف، أو لالتقاء الساكنين تشبيهاً للنون بحروف اللين أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا وهو مزيف لأنه يؤدي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدر‏.‏ ‏{‏وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله‏}‏ هو أيضاً قول بعضهم، وإنما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا أب أو لأن يفعل ما فعله من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى من لم يكن إلهاً‏.‏ ‏{‏ذلك قَوْلُهُم بأفواههم‏}‏ إما تأكيد لنسبة هذا القول إليهم ونفي للتجوز عنها، أو إشعار بأنه قول مجرد عن برهان وتحقيق مماثل للمهمل الذي يوجد في الأفواه ولا يوجد مفهومه في الأعيان‏.‏ ‏{‏يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي يضاهي قولهم قول الذين كفروا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبلهم والمراد قدماؤهم على معنى أن الكفر قديم فيهم، أو المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله، أو اليهود على أن الضمير للنصارى، والمضاهاة المشابهة والهمز لغة فيه‏.‏ وقرأ به عاصم ومنه قولهم امرأة ضهيأ على فعيل للتي شابهت الرجال في أنها لا تحيض‏.‏ ‏{‏قاتلهم الله‏}‏ دعاء عليهم بالإِهلاك فإن من قاتله الله هلك، أو تعجب من شناعة قولهم‏.‏ ‏{‏أنى يُؤْفَكُونَ‏}‏ كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله‏}‏ بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله أو بالسجود لهم‏.‏ ‏{‏والمسيح ابن مَرْيَمَ‏}‏ بأن جعلوه ابناً لله‏.‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُواْ‏}‏ أي وما أمر المتخذون أو المتخذون أرباباً فيكون كالدليل على بطلان الاتخاذ‏.‏ ‏{‏إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ‏}‏ ليطيعوا‏.‏ ‏{‏إلها واحدا‏}‏ وهو الله تعالى وأما طاعة الرسول وسائر من أمر الله بطاعته فهو في الحقيقة طاعة لله‏.‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ صفة ثانية أو استئناف مقرر للتوحيد‏.‏ ‏{‏سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ تنزيه له عن أن يكون له شريك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ‏}‏ يخمدوا‏.‏ ‏{‏نُورَ الله‏}‏ حجته الدالة على وحدانيته وتقدسه عن الولد، أو القرآن أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏بأفواههم‏}‏ بشركهم أو بتكذيبهم‏.‏ ‏{‏ويأبى الله‏}‏ أي لا يرضى‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ‏}‏ بإعلاء التوحيد وإعزاز الإِسلام‏.‏ وقيل إنه تمثيل لحالهم في طلبهم إبطال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يطلب إطفاء نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده بنفخه، وإنما صح الاستثناء المفرغ والفعل موجب لأنه في معنى النفي‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ الكافرون‏}‏ محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ‏}‏ كالبيان لقوله‏:‏ ‏{‏ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ‏}‏ ولذلك كرر ‏{‏وَلَوْ كَرِهَ المشركون‏}‏ غير أنه وضع المشركون موضع الكافرون للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الشرك بالله، والضمير في ‏{‏لِيُظْهِرَهُ‏}‏ للدين الحق، أو للرسول عليه الصلاة والسلام واللام في ‏{‏الدين‏}‏ للجنس أي على سائر الأديان فينسخها، أو على أهلها فيخذلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل‏}‏ يأخذونها بالرشا في الأحكام سمي أخذ المال أكلاً لأنه الغرض الأعظم منه‏.‏ ‏{‏وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ دينه‏.‏ ‏{‏والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله‏}‏ يجوز أن يراد به الكثير من الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص على المال والضن به وأن يراد المسلمون الذين يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدون حقه ويكون اقترانه بالمرتشين من أهل الكتاب للتغليظ، ويدل عليه أنه لما نزل كبر على المسلمين فذكر عمر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم» وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما أدى زكاته فليس بكنز» أي بكنز أوعد عليه، فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإِنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه، وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» ونحوه فالمراد منها ما لم يؤد حقها لقوله عليه الصلاة والسلام فيما أورده الشيخان مروياً عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره» ‏{‏فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ هو الكي بهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ‏}‏ أي يوم توقد النار ذات حمى شديد عليها، وأصله تحمى بالنار فجعل الإِحماء للنار مبالغة ثم حذفت النار وأسند الفعل إلى الجار والمجرور تنبيهاً على المقصود فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير، وإنما قال ‏{‏عَلَيْهَا‏}‏ والمذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة كما قال علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ أربعة آلاف وما دونها وما فوقها كنز‏.‏ وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُنفِقُونَهَا‏}‏ وقيل الضمير فيهما للكنوز أو للأموال فإن الحكم عام وتخصيصهما بالذكر لأنهما قانون التمول، أو للفضة وتخصيصها لقربها ودلالة حكمها على أن الذهب أولى بهذا الحكم‏.‏ ‏{‏فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ‏}‏ لأن جمعهم وإمساكهم إياه كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية والملابس البهية، أو لأنهم ازوروا عن السائل وأعرضوا عنه وولوه ظهورهم، أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هى مقاديم البدن ومآخيره وجنباه‏.‏ ‏{‏هذا مَا كَنَزْتُمْ‏}‏ على إرادة القول‏.‏ ‏{‏لأَنفُسِكُمْ‏}‏ لمنفعتها وكان عين مضرتها وسبب تعذيبها‏.‏ ‏{‏فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ‏}‏ أي وبال كنزكم أو ما تكنزونه وقرئ ‏{‏تَكْنِزُونَ‏}‏ بضم النون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشهور‏}‏ أي مبلغ عددها‏.‏ ‏{‏عَندَ الله‏}‏ معمول عدة لأنها مصدر‏.‏ ‏{‏اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله‏}‏ في اللوح المحفوظ، أو في حكمه وهو صفة لاثني عشر، وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ خَلَقَ السموات والأرض‏}‏ متعلق بما فيه من معنى الثبوت أو بالكتاب إن جعل مصدراً والمعنى‏:‏ أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر مذ خلق الله الأجرام والأزمنة‏.‏ ‏{‏مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ‏}‏ واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم‏.‏ ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ أي تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام والعرب ورثوه منهما‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ‏}‏ بهتك حرمتها وارتكاب حرمها والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة، وأولوا الظلم بارتكاب المعاصي فيهن فإنه أعظم وزراً كارتكابها في الحرم وحال الإِحرام، وعن عطاء أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم وفي الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأول ما روي ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة‏)‏‏.‏ ‏{‏وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً‏}‏ جميعاً وهو مصدر كف عن الشيء فإن الجميع مكفوف عن الزيادة وقع موقع الحال‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين‏}‏ بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا النسئ‏}‏ أي تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهراً آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد، وعن نافع برواية ورش ‏{‏إِنَّمَا النسي‏}‏ بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها‏.‏ وقرئ «النسي» بحذفها والنسء والنساء وثلاثتها مصادر نسأه إذا أخره‏.‏ ‏{‏زِيَادَةٌ فِى الكفر‏}‏ لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله فهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم‏.‏ ‏{‏يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ضلالاً زائداً‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص ‏{‏يُضِلَّ‏}‏ على البناء للمفعول، وعن يعقوب ‏{‏يُضِلَّ‏}‏ على أن الفعل لله تعالى‏.‏ ‏{‏يُحِلُّونَهُ عَامًا‏}‏ يحلون المنسي من الأشهر الحرم سنة ويحرمون مكانه شهراً آخر‏.‏ ‏{‏وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا‏}‏ فيتركونه على حرمته‏.‏ قيل‏:‏ أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني كان يقوم على جمل في الموسم فينادي‏:‏ إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم ينادي في القبائل إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه‏.‏ والجملتان تفسير للضلال أو حال‏.‏ ‏{‏لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله‏}‏ أي ليوافقوا عدة الأربعة المحرمة، واللام متعلقة بيحرمونه أو بما دل عليه مجموع الفعلين ‏{‏فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله‏}‏ بمواطأة العدة وحدها من غير مراعاة الوقت‏.‏ ‏{‏زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم‏}‏ وقرئ على البناء للفاعل وهو الله تعالى، والمعنى خذلهم وأضلهم حتى حسبوا قبيح أعمالهم حسناً‏.‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين‏}‏ هداية موصلة إلى الاهتداء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها الذين ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِى سَبِيلِ الله اثاقلتم‏}‏ تباطأتم، وقرئ «تثاقلتم» على الأصل و«أثَّاقَلْتُمْ» على الاستفهام للتوبيخ‏.‏ ‏{‏إِلَى الأرض‏}‏ متعلق به كأنه ضمن معنى الإِخلاد والميل فعدى بإلى، وكان ذلك في غزوة تبوك أمروا بها بعد رجوعهم من الطائف في وقت عسرة وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم‏.‏ ‏{‏أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ وغرورها‏.‏ ‏{‏مِنَ الآخرة‏}‏ بدل الآخرة ونعيمها‏.‏ ‏{‏فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا‏}‏ فما التمتع بها‏.‏ ‏{‏فِى الآخرة‏}‏ في جنب الآخرة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ مستحقر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 49‏]‏

‏{‏إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏40‏)‏ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏42‏)‏ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏43‏)‏ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ‏(‏45‏)‏ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏46‏)‏ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏48‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ تَنفِرُواْ‏}‏ إن لا تنفروا إلى ما استنفرتم إليه‏.‏ ‏{‏يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ بالإهلاك بسبب فظيع كقحط وظهور عدو‏.‏ ‏{‏وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ‏}‏ ويستبدل بكم آخرين مطيعين كأهل اليمن وأبناء فارس‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا‏}‏ إذ لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئاً فإنه الغني عن كل شيء وفي كل أمر‏.‏ وقيل الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم أي ولا تضروه فإن الله سبحانه وتعالى وعد له بالعصمة والنصر ووعده حق‏.‏ ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مدد كما قال‏.‏

‏{‏إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله‏}‏ أي إن لم تنصروه فسينصره الله كما نصره‏.‏ ‏{‏إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين‏}‏ ولم يكن معه إلا رجل واحد، فحذف الجزاء وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه، أو إن لم تنصروه فقد أوجب الله له النصر حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره، وإسناد الإِخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله تسبب لإذن الله له بالخروج‏.‏ وقرئ ‏{‏ثَانِيَ اثنين‏}‏ بالسكون على لغة من يجري المنقوص مجرى المقصور في الإعراب ونصبه على الحال‏.‏ ‏{‏إِذْ هُمَا فِى الغار‏}‏ بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع، والغار نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثاً‏.‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ‏}‏ بدل ثان أو ظرف لثاني‏.‏ ‏{‏لِصَاحِبِهِ‏}‏ وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه ‏{‏لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا‏}‏ بالعصمة والمعونة‏.‏ روي ‏(‏أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه‏)‏‏.‏ وقيل لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه‏.‏ ‏{‏فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ‏}‏ أمنته التي تسكن عندها القلوب‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ على النبي صلى الله عليه وسلم، أو على صاحبه وهو الأظهر لأنه كان منزعجاً‏.‏ ‏{‏وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ يعني الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين، فتكون الجملة معطوفة على قوله ‏{‏نَصَرَهُ الله‏}‏‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى‏}‏ يعني الشرك أو دعوة الكفر‏.‏ ‏{‏وَكَلِمَةُ الله هِىَ العليا‏}‏ يعني التوحيد أو دعوة الإِسلام، والمعنى وجعل ذلك بتخليص الرسول صلى الله عليه وسلم عن أيدي الكفار إلى المدينة فإنه المبدأ له، أو بتأييده إياه بالملائكة في هذه المواطن أو بحفظه ونصره له حيث حضر‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏وَكَلِمَةُ الله‏}‏ بالنصب عطفاً على كلمة ‏{‏الذين‏}‏، والرفع أبلغ لما فيه من الإِشعار بأن ‏{‏كَلِمَةَ الله‏}‏ عالية في نفسها وإن فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولا اعتبار ولذلك وسط الفصل‏.‏

‏{‏والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ‏}‏ في أمره وتدبيره‏.‏

‏{‏انفروا خِفَافًا‏}‏ لنشاطكم له‏.‏ ‏{‏وَثِقَالاً‏}‏ عنه لمشقته عليكم، أو لقلة عيالكم ولكثرتها أو ركباناً ومشاة، أو خفافاً وثقالاً من السلاح، أو صحاحاً ومراضاً ولذلك لما قال ابن أم مكتوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعلي أن أنفر قال ‏"‏ نعم ‏"‏ حتى نزل ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ‏}‏ ‏{‏وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما‏.‏ ‏{‏ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ من تركه‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ الخير علمتم أنه خير، أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ إخبار الله تعالى به صدق فبادروا إليه‏.‏

‏{‏لَوْ كَانَ عَرَضًا‏}‏ أي لو كان ما دعوا إليه نفعاً دنيوياً‏.‏ ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ سهل المأخذ‏.‏ ‏{‏وَسَفَرًا قَاصِدًا‏}‏ متوسطاً‏.‏ ‏{‏لاَّتَّبَعُوكَ‏}‏ لوافقوك‏.‏ ‏{‏ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة‏}‏ أي المسافة التي تقطع بمشقة‏.‏ وقرئ بكسر العين والشين‏.‏ ‏{‏وَسَيَحْلِفُونَ بالله‏}‏ أي المتخلفون إذا رجعت من تبوك معتذرين‏.‏ ‏{‏لَوِ استطعنا‏}‏ يقولون لو كان لنا استطاعة العدة أو البدن‏.‏ وقرئ ‏{‏لَوِ استطعنا‏}‏ بضم الواو تشبيهاً لها بواو الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏اشتروا الضلالة‏}‏‏.‏ ‏{‏لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ‏}‏ ساد مسد جوابي القسم والشرط، وهذا من المعجزات لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه‏.‏ ‏{‏يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏ بإيقاعها في العذاب، وهو بدل من سيحلفون لأن الحلف الكاذب إيقاع للنفس في الهلاك أو حال من فاعله‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ في ذاك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج‏.‏

‏{‏عَفَا الله عَنكَ‏}‏ كناية عن خطئه في الإِذن فإن العفو من روادفه‏.‏ ‏{‏لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ‏}‏ بيان لما كني عنه بالعفو ومعاتبة عليه، والمعنى لأي شيء أذنت لهم في القعود حين استأذنوك واعتلوا بأكاذيب وهلا توقفت‏.‏ ‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ‏}‏ في الاعتذار‏.‏ ‏{‏وَتَعْلَمَ الكاذبين‏}‏ فيه‏.‏ قيل إنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئين لم يؤمر بهما، أخذه للفداء وإذنه للمنافقين فعاتبه الله عليهما‏.‏

‏{‏لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ‏}‏ أي ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا فإن الخلص منهم يبادرون إليه ولا يتوقفون على الاذن فيه فضلاً أن يستأذنوك في التخلف عنه، أو أن يستأذنوك في التخلف كراهة أن يجاهدوا‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بالمتقين‏}‏ شهادة لهم بالتقوى وعده لهم بثوابه‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ‏}‏ في التخلف‏.‏ ‏{‏الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر‏}‏ تخصيص الإيمان بالله عز وجل واليوم الآخر في الموضعين للإِشعار بأن الباعث على الجهاد والوازع عنه الإِيمان وعدم الإِيمان بهما‏.‏ ‏{‏وارتابت قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ‏}‏ يتحيرون‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لاعَدُّواْ لَهُ‏}‏ للخروج‏.‏ ‏{‏عِدَّةَ‏}‏ أهبة وقرئ «عد» بحذف التاء عند الإضافة كقوله‏:‏

إِنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ فَانْجَرَدُوا *** وَأَخْلَفُوكَ عَدَّا الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا

وعده بكسر العين بالإضافة وعدة بغيرها‏.‏ ‏{‏ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم‏}‏ استدراك عن مفهوم قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج‏}‏ كأنه قال ما خرجوا ولكن تثبطوا لأنه تعالى كره انبعاثهم أي نهوضهم للخروج‏.‏ ‏{‏فَثَبَّطَهُمْ‏}‏ فحسبهم بالجبن والكسل‏.‏ ‏{‏وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين‏}‏ تمثيل لإِلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود، أو حكاية قول بعضهم لبعض، أو إذن الرسول عليه السلام لهم والقاعدين يحتمل المعذورين وغيرهم وعلى الوجهين لا يخلو عن ذم‏.‏

‏{‏لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ‏}‏ بخروجهم شيئاً‏.‏ ‏{‏إِلاَّ خَبَالاً‏}‏ فساداً وشراً ولا يستلزم ذلك أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء، ولأجل هذا التوهم جعل الاستثناء منقطعاً وليس كذلك لأنه لا يكون مفرغاً‏.‏ ‏{‏ولأَوْضَعُواْ خلالكم‏}‏ ولأسرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة والتضريب، أو الهزيمة والتخذيل من وضع البعير وضعاً إذا أسرع‏.‏ ‏{‏يَبْغُونَكُمُ الفتنة‏}‏ يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم أو الرعب في قلوبكم، والجملة حال من الضمير في «أوضعوا»‏.‏ ‏{‏وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ‏}‏ ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم، أو نمامون يسمعون حديثكم للنقل إليهم‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بالظالمين‏}‏ فيعلم ضمائرهم وما يتأتى منهم‏.‏

‏{‏لَقَدِ ابتغوا الفتنة‏}‏ تشتيت أمرك وتفريق أصحابك‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ يعني يوم أحد فإن ابن أبي وأصحابه كما تخلفوا عن تبوك بعدما خرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذي جدة أسفل من ثنية الوداع انصرفوا يوم أحد‏.‏ ‏{‏وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور‏}‏ ودبروا لك المكايد والحيل ودوروا الآراء في إبطال أمرك‏.‏ ‏{‏حتى جَاء الحق‏}‏ بالنصر والتأييد الإلهي‏.‏ ‏{‏وَظَهَرَ أَمْرُ الله‏}‏ وعلا دينه‏.‏ ‏{‏وَهُمْ كارهون‏}‏ أي على رغم منهم، والآيتان لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على تخلفهم وبيان ما ثبطهم الله لأجله وكره انبعاثهم له وهتك أستارهم وكشف أسرارهم وإزاحة اعتذارهم تداركاً لما فوت الرسول صلى الله عليه وسلم بالمبادرة إلى الأذن ولذلك عوتب عليه‏.‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي‏}‏ في القعود‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَفْتِنّى‏}‏ ولا توقعني في الفتنة أي في العصيان والمخالفة بأن لا تأذن لي، وفيه إشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له أم لم يأذن، أو في الفتنة بسبب ضياع المال والعيال إذ لا كافل لهم بعدي‏.‏ أو في الفتنة بنساء الروم لما روي‏:‏ أن جد بن قيس قال‏:‏ قد علمت الأنصار أني مولع بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر ولكني أعينك بمالي فاتركني‏.‏ ‏{‏أَلا فِى الفتنة سَقَطُواْ‏}‏ أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف أو ظهور النفاق لا ما احترزوا عنه‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين‏}‏ جامعاً لهم يوم القيامة، أو الآن لأن إحاطة أسبابها بهم كوجودها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏إِن تُصِبْكَ‏}‏ في بعض غزواتك‏.‏ ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ ظفر وغنيمة‏.‏ ‏{‏تَسُؤْهُمْ‏}‏ لفرط حسدهم‏.‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْكَ‏}‏ في بعضها‏.‏ ‏{‏مُّصِيبَةٍ‏}‏ كسر أو شدة كما أصاب يوم أحد‏.‏ ‏{‏يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ‏}‏ تبجحوا بانصرافهم واستحمدوا رأيهم في التخلف‏.‏ ‏{‏وَيَتَوَلَّواْ‏}‏ عن متحدثهم بذلك ومجتمعهم له، أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَّهُمْ فَرِحُونَ‏}‏ مسرورون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا‏}‏ إلا ما اختصنا بإثباته وإيجابه من النصرة، أو الشهادة أو ما كتب لأجلنا في اللوح المحفوظ لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم‏.‏ وقرئ «هل يصيبنا» و«هل يصيبنا» وهو من فيعل لا من فعل لأنه من بنات الواو لقولهم صاب السهم يصوب واشتقاقه من الصواب لأنه وقوع الشيء فيما قصد به‏.‏ وقيل من الصواب‏.‏ ‏{‏هُوَ مولانا‏}‏ ناصرنا ومتولي أمورنا‏.‏ ‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ لأن حقهم أن لا يتوكلوا على غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا‏}‏ تنتظرون بنا‏.‏ ‏{‏إِلا إِحْدَى الحسنيين‏}‏ إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى العواقب‏:‏ النصرة والشهادة‏.‏ ‏{‏وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ‏}‏ أيضاً إحدى السوأيين ‏{‏أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ‏}‏ بقارعة من السماء‏.‏ ‏{‏أَوْ بِأَيْدِينَا‏}‏ أو بعذاب بأيدينا وهو القتل على الكفر‏.‏ ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ‏}‏ ما هو عاقبتنا ‏{‏إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ‏}‏ ما هو عاقبتكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ‏}‏ أمر في معنى الخبر، أي لن يتقبل منكم نفقاتكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً‏.‏ وفائدته المبالغة في تساوي الانفاقين في عدم القبول كأنهم أمروا بأن يمتحنوا فينفقوا وينظروا هل يتقبل منهم‏.‏ وهو جواب قول جد بن قيس وأعينك بمالي‏.‏ ونفي التقبل يحتمل أمرين أن لا يؤخذ منهم وأن لا يثابوا عليه وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فاسقين‏}‏ تعليل له على سبيل الاستئناف وما بعده بيان وتقرير له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ‏}‏ أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «أن يقبل» بالياء لأن تأنيث النفقات غير حقيقي‏.‏ وقرئ «يقبل» على أن الفعل لله‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى‏}‏ متثاقلين‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون‏}‏ لأنهم لا يرجون بهما ثواباً ولا يخافون على تركهما عقاباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم‏}‏ فإن ذلك استدراج ووبال لهم كما قال‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا‏}‏ بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب‏.‏ ‏{‏وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون‏}‏ فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك استدراجاً لهم‏.‏ وأصل الزهوق الخروج بصعوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ‏}‏ إنهم لمن جملة المسلمين‏.‏ ‏{‏وَمَا هُم مّنكُمْ‏}‏ لكفر قلوبهم‏.‏ ‏{‏ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ‏}‏ يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين فيظهرون الإِسلام تقية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ‏}‏ حصناً يلجؤون إليه ‏{‏أَوْ مغارات‏}‏ غيراناً‏.‏ ‏{‏أَوْ مُدْخَلاً‏}‏ نفقاً ينجحرون فيه مفتعل من الدخول وقرأ يعقوب ‏{‏مُّدْخَلاً‏}‏ من مدخل‏.‏ وقرئ ‏{‏مُّدْخَلاً‏}‏ أي مكاناً يدخلون فيه أنفسهم و«متدخلاً» و«مندخلاً» من تدخل واندخل ‏{‏لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ‏}‏ لأقبلوا نحوه‏.‏ ‏{‏وَهُمْ * يَجْمَحُون‏}‏ يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء كالفرس الجموح‏.‏ وقرئ «يجمزون» ومنه الجمازة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ‏}‏ يعيبك‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏يَلْمِزُكَ‏}‏ بالضم وابن كثير «يلامزك»‏.‏ ‏{‏فِي الصدقات‏}‏ في قسمها‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ‏}‏ قيل إنها نزلت في أبي الجواظ المنافق فقال؛ ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل‏.‏ وقيل في ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فاستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم فقال‏:‏ اعدل يا رسول الله فقال‏:‏ ‏"‏ ويلك إن لم أعدلْ فمن يعدل ‏"‏ و‏{‏إِذَا‏}‏ للمفاجأة نائب مناب الفاء الجزائية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ‏(‏59‏)‏ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ‏}‏ ما أعطاهم الرسول من الغنيمة أو الصدقة، وذكر الله للتعظيم وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام كان بأمره‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله‏}‏ كفانا فضله ‏{‏سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ صدقة أو غنيمة أخرى‏.‏ ‏{‏وَرَسُولُهُ‏}‏ فيؤتينا أكثر مما آتانا‏.‏ ‏{‏إِنَّا إِلَى الله راغبون‏}‏ في أن يغنينا من فضله، والآية بأسرها في حيز الشرط، والجواب محذوف تقديره ‏{‏خَيْراً لَّهُمْ‏}‏‏.‏ ثم بين مصارف الصدقات تصويباً وتحقيقاً لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء والمساكين‏}‏ أي الزكوات لهؤلاء المعدودين دون غيرهم، وهو دليل على أن المراد باللمز لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم‏.‏ والفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعاً من حاجته من الفقار كأنه أصيب فقاره‏.‏ والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه من السكون كأن العجز أسكنه، ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين‏}‏ وأنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل المسكنة ويتعوذ من الفقر‏.‏ وقيل بالعكس لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏ ‏{‏والعاملين عَلَيْهَا‏}‏ الساعين في تحصيلها وجمعها‏.‏ ‏{‏والمؤلفة قُلُوبُهُمْ‏}‏ قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستأنف قلوبهم أو أشراف قد يترتب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس لذلك‏.‏ وقيل أشراف يستألفون على أن يسلموا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله وقد عد منهم من يؤلف قلبه بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة‏.‏ وقيل كان سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله وأكثر أهله سقط‏.‏ ‏{‏وَفِي الرقاب‏}‏ وللصرف في فك الرقاب بأن يعاون المكاتب بشيء منها على أداء النجوم‏.‏ وقيل بأن تبتاع الرقاب فتعتق وبه قال مالك وأحمد أو بأن يفدي الأسارى‏.‏ والعدول عن اللام إلى ‏{‏فِى‏}‏ للدلالة على أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب‏.‏ وقيل للايذان بأنهم أحق بها‏.‏ ‏{‏والغارمين‏}‏ والمديونين لأنفسهم في غير معصية ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء، أو لإِصلاح ذات البين وإن كانوا أغنياء لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة‏:‏ لغازٍ في سبيل الله أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني أو لعامل عليها» ‏{‏وَفِى سَبِيلِ الله‏}‏ وللصرف في الجهاد بالإِنفاق على المتطوعة وابتياع الكراع والسلاح‏.‏ وقيل وفي بناء القناطر والمصانع‏.‏ ‏{‏وابن السبيل‏}‏ المسافر المنقطع عن ماله‏.‏

‏{‏فَرِيضَةً مّنَ الله‏}‏ مصدر لما دل عليه الآية الكريمة أي فرض لهم الله الصدقات فريضة، أو حال من الضمير المستكن في ‏{‏لِلْفُقَرَاء‏}‏‏.‏ وقرئ بالرفع على تلك ‏{‏فَرِيضَةً‏}‏‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ يضع الأشياء في مواضعها، وظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالأصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ومراعاة التسوية بينهم قضية للاشتراك وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد وبه قال الأئمة الثلاثة واختاره بعض أصحابنا، وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهما الله تعالى على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم لا إيجاب قسمها عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ‏}‏ يسمع كل ما يقال له ويصدقه، سمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع كما سمي الجاسوس عيناً لذلك، أو اشتق له فعل من أذن أذناً إذا استمع كأنف وشلل‏.‏ روي أنهم قالوا محمد أذن سامعه نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول‏.‏ ‏{‏قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ‏}‏ تصديق لهم بأنه أذن ولكن لا على الوجه الذي ذموا به بل من حيث أنه يسمع الخير ويقبله، ثم فسر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنُ بالله‏}‏ يصدق به لما قام عنده من الأدلة‏.‏ ‏{‏وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ويصدقهم لما علم من خلوصهم، واللام مزيدة للتفرقة بين إيمان التصديق فإنه بمعنى التسليم وإيمان الأمان‏.‏ ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ أي وهو رحمة‏.‏ ‏{‏لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ‏}‏ لمن أظهر الإِيمان حيث يقبله ولا يكشف سره، وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم جهلاً بحالكم بل رفقاً بكم وترحماً عليكم‏.‏ وقرأ حمزة ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ بالجر عطفاً على ‏{‏خَيْرٌ‏}‏‏.‏ وقرئ بالنصب على أنها علة فعل دل عليه ‏{‏أُذُنُ خَيْرٍ‏}‏ أي يأذن لكم رحمة‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏أَذِنَ‏}‏ بالتخفيف فيهما‏.‏ وقرئ ‏{‏أُذُنُ خَيْرٍ‏}‏ على أن ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ صفة له أو خبر ثان ‏{‏والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ بإِيذائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ‏}‏ على معاذيرهم فيما قالوا أو تخلفوا‏.‏ ‏{‏لِيُرْضُوكُمْ‏}‏ لترضوا عنهم والخطاب للمؤمنين‏.‏ ‏{‏والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ أحق بالإِرضاء بالطاعة والوفاق، وتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين أو لأن الكلام في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإرضائه، أو لأن التقدير والله أحق أن يرضوه والرسول كذلك‏.‏ ‏{‏إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ صدقاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 70‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ‏(‏63‏)‏ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ‏(‏64‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏65‏)‏ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏66‏)‏ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏67‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏68‏)‏ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏69‏)‏ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ‏}‏ أن الشأن وقرئ بالتاء‏.‏ ‏{‏مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ يشاقق مفاعلة من الحد‏.‏ ‏{‏فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا‏}‏ على حذف الخبر أي فحق أن له أو على تكرير أن للتأكيد ويحتمل أن يكون معطوفاً على أنه ويكون الجواب محذوفاً تقديره من يحادد الله ورسوله يهلك، وقرئ ‏{‏فَإن‏}‏ بالكسر‏.‏ ‏{‏ذلك الخزى العظيم‏}‏ يعني الهلاك الدائم‏.‏

‏{‏يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ‏}‏ على المؤمنين‏.‏ ‏{‏سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم‏}‏ وتهتك عليهم أستارهم، ويجوز أن يكون الضمائر للمنافقين فإن النازل فيهم كالنازل عليهم من حيث إنه مقروء ومحتج به عليهم، وذلك يدل على ترددهم أيضاً في كفرهم وأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء‏.‏ وقيل إنه خبر في معنى الأمر‏.‏ وقيل كانوا يقولونه فيما بينهم استهزاء لقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ‏}‏ مبرز أو مظهر‏.‏ ‏{‏مَّا تَحْذَرُونَ‏}‏ أي ما تحذرونه من إنزال السورة فيكم، أو ما تحذرون إظهاره من مساويكم‏.‏

‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏}‏ روي‏:‏ أن ركب المنافقين مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقالوا‏:‏ انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات، فأخبر الله تعالى به نبيه فدعاهم فقال‏:‏ «قلتم كذا وكذا» فقالوا لا والله ما كنا في شيء من أمرك وأمر أصحابك ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر‏.‏ ‏{‏قُلْ أبالله وءاياته وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهزِؤون‏}‏ توبيخاً على استهزائهم بمن لا يصح الاستهزاء به، وإلزاماً للحجة عليهم ولا تعبأ باعتذارهم الكاذب‏.‏

‏{‏لاَ تَعْتَذِرُواْ‏}‏ لا تشتغلوا باعتذارتكم فإنها معلومة الكذب‏.‏ ‏{‏قَدْ كَفَرْتُمْ‏}‏ قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه‏.‏ ‏{‏بَعْدَ إيمانكم‏}‏ بعد إظهاركم الإيمان‏.‏ ‏{‏إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ‏}‏ لتوبتهم وإخلاصهم، أو لتجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء‏.‏ ‏{‏نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ‏}‏ مصرين على النفاق أو مقدمين على الإِيذاء والاستهزاء‏.‏ وقرأ عاصم بالنون فيهما‏.‏ وقرئ بالياء وبناء الفاعل فيهما وهو الله «وإن تعف» بالتاء والبناء على المفعول ذهاباً إلى المعنى كأنه قال‏:‏ أن ترحم طائفة‏.‏

‏{‏المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ‏}‏ أي متشابهة في النفاق والبعد عن الإِيمان كأبعاض الشيء الواحد‏.‏ وقيل إنه تكذيب لهم في حلفهم بالله إنهم لمنكم وتقرير لقولهم وما هم منكم وما بعده كالدليل عليه، فإنه يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين وهو قوله‏:‏ ‏{‏يَأْمُرُونَ بالمنكر‏}‏ بالكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف‏}‏ عن الإِيمان والطاعة‏.‏ ‏{‏وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ‏}‏ عن المبار، وقبض اليد كناية عن الشح‏.‏ ‏{‏نَسُواْ الله‏}‏ غفلوا عن ذكر الله وتركوا طاعته‏.‏

‏{‏فَنَسِيَهُمْ‏}‏ فتركهم من لطفه وفضله‏.‏ ‏{‏إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون‏}‏ الكاملون في التمرد والفسوق عن دائرة الخير‏.‏

‏{‏وَعَدَ الله المنافقين والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا‏}‏ مقدرين الخلود‏.‏ ‏{‏هِىَ حَسْبُهُمْ‏}‏ عقابًا وجزاء وفيه دليل على عظم عذابها‏.‏ ‏{‏وَلَعَنَهُمُ الله‏}‏ أبعدهم من رحمته وأهانهم‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ‏}‏ لا ينقطع والمراد به ما وعدوه أو ما يقاسونه من تعب النفاق‏.‏

‏{‏كالذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ أي أنتم مثل الذين، أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم‏.‏ ‏{‏كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا‏}‏ بيان لتشبيههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم‏.‏ ‏{‏فاستمتعوا بخلاقهم‏}‏ نصيبهم من ملاذ الدنيا، واشتقاقه من الخلق بمعنى التقدير فإنه ما قدر لصاحبه‏.‏ ‏{‏فَاسْتَمْتَعْتُمْ بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم‏}‏ ذم الأولين باستمتاعهم بحظوظهم المخدجة من الشهوات الفانية والتهائهم بها عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم‏.‏ ‏{‏وَخُضْتُمْ‏}‏ ودخلتم في الباطل‏.‏ ‏{‏كالذي خَاضُواْ‏}‏ كالذين خاضوا، أو كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوه‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والآخرة‏}‏ لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين‏.‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون‏}‏ الذين خسروا الدنيا والآخرة‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ‏}‏ أغرقوا بالطوفان‏.‏ ‏{‏وَعَادٌ‏}‏ أهلكوا بالريح‏.‏ ‏{‏وَثَمُودُ‏}‏ أهلكوا بالرجفة‏.‏ ‏{‏وَقَوْمِ إبراهيم‏}‏ أهلك نمروذ ببعوض وأهلك أصحابه‏.‏ ‏{‏وأصحاب مَدْيَنَ‏}‏ وأهل مدين وهم قوم شعيب أهلكوا بالنار يوم الظلة‏.‏ ‏{‏والمؤتفكات‏}‏ قريات قوم لوط ائتفكت بهم أي انقلبت بهم فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل، وقيل قريات المكذبين المتمردين وائتفاكهن انقلاب أحوالهن من الخير إلى الشر‏.‏ ‏{‏أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ‏}‏ يعني الكل‏.‏ ‏{‏بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ‏}‏ أي لم يك من عادته ما يشابه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم‏.‏ ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب‏.‏